الحق أننا نحن العرب أحوج الخلق إلى الصحبة هذا العقل والائتناس به لأنه أقدر من يغرس فينا شيئأ غائبا هو التساؤل ويكمل فينا عضوا ناقصا هو النقد.
يعد كارل بوبر واحداً من أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين؛ إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، ويعد فضلاً عن ذلك واحداً من أهم فلاسفة السياسة والاجتماع، ونصيراً مخلصاً للديموقراطية، وداعية للمجتمع المفتوح، وخصماً عنيداً لأعدائه على اختلاف مشاربهم، وللشمولية في جميع صورها وتجلياتها. آمن بوبر بقيمة العقل ودوره وقدرته، وتبني “النقد” منهجاً لعمل العقل وتقدم المعرفة، وناهض كل نزعة “ارتيابية” أو “إصلاحية” أو “نسبية” في العلم وفي الشؤون البشرية بعامة. ورد إلى الفلسفة مكانتها الرفيعة ومشروعها الطموح، بعد أن انقلبت على نفسها زمناً وكادت تتحول على يد الوضعيين وفلاسفة التحليل اللغوي إلى تابع ذليل للعلم، وضيف ثقيل على مائدة العلماء. ولأول مرة في تاريخ العلم الحديث، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الممارسة العلمية، صرنا نرى كبار العلماء وأفذاذهم يتدافعون إلى مائدة أحد الفلاسفة ويتسابقون على التهام أعماله واستلهامها، ويفيدون من مناهجه واستبصاراته في نشاطهم الفعلي، ويدينون بالفضل فيما ظفروا ه من نجاح وفيما حققوه من كشوف. ولأول مرة في تاريخ السياسة الحديثة صرنا نرى أمماً عريقة كالصين، تأخذ بمنهج أحد الفلاسفة في تصحيح مسارها الانتصاري والسياسي، فتكتشف ذاتها الحقيقية، وتنشط من عقالها، وتنطلق انطلاق مارد من قمقمه. وصرنا نرى أمماً مجهدة مثل دول أوروبا الشرقية، تدرس فكره السياسي في معاهدها وتشرع في تطبيقه في بدايات بروزها من وراء الستار الحديدي، وصرنا نرى أمماً مزدهرة كاليابان تؤسس رابطة بوبرية لنشر فكره وتطويره من خلال نشرات ودوريات وبرامج تعليمية. إنه صورة مضيئة لثراء الفكر، ومثال حي لخصوبة الفلسفة وبؤس أعدائها.
وأول ما يسترعي النظر في شخصية بوبر الفكرية هو موسوعيته وتعدد جوانبه واتساع مجال اهتمامه ونطاق تأثيره. على أن هناك وحدة جوهرية في رؤيته ومنهجه تجعل من إسهاماته، على تباعدها وتراميها، كلاً واحداً منسجماً يأخذ بعضه بحجز بعض. وقد درج الباحثون على تناول أعماله الابستمولوجية والعلمية والاجتماعية كما لو كانت عناصر منفصلة لا يجمع بينها شيء ولا تتصل فيما بينها بسبب. وقد كان لهم في تعدد إنتاجه وغزارة مادته عذر واضح. غير أن هذه الطريقة في أعمال كارل بوبر جديرة أن تضيع هذا الخيط الواصل بين جميع عناصرها،و جديرة من ثم تفلت من أيدينا أهم عمل من أعمال بوبر على الإطلاق، ذلك الترابط الكلي الوثيق، وتلك الوحدة المنهجية الأصيلة.
من هذا المنطلق يأتي هذا الكتاب الذي يتحدث عن فلسفة كارل بوبر من خلال أعماله. وقد دارت محاور هذه الدراسة حول فلسفة بوبر في كل من المسائل التالية: مذهب التكذيب، التحليل النفسي، النفس ودماغها، المجتمع المفتوح وأعداؤه، نظرية نقدية، موجز لكارل بوبر.
التعليقات
مسح الفلاترلا توجد مراجعات بعد.