جديد
في هذا الكتاب، يعكف «غوستاف لوبون على استكشاف الروح السياسية للجماعات، تلك الروح التي تتغلغل في أعمق أعماق الحياة الاجتماعية والفكرية، لتكون المحرك الرئيس في مسار الأمم. ففي كل سطر، ينبض الكتاب بمشهد حي يعكس كيف أن الحياة الفكرية للجماعات لا تسير في مسار واحد، بل تتدافع كأمواج البحر، تحمل بين طياتها الحركات الاقتصادية العسكرية، والاجتماعية. فالروح السياسية عند «لوبون»، ليست مجرد وسيلة لتحقيق السلطة، بل هي القوة الخفية التي تزرع بذور الصراع بين الشعوب والحكومات، بين الثائرين والمستبدين.
أثناء تأملاته، يكشف لوبون» عن صورة مأساوية لتلك الأنظمة القمعية التي تسحق كل آمال الشعوب في العيش بحرية وكرامة، مبرزا كيف أن هذه الأنظمة تعمل كطواحين هواء لا تمل من طحن كل معارضة، لتشوه بذلك وجه العدالة وتخنق أي أمل في التغيير. وبطريقته العميقة، يغوص الكاتب في أبعاد الصراع بين الحركات الاشتراكية الأوروبية في ذلك الزمن وبين قوى الرأسمالية الجشعة التي تظن أن العالم بأسره ملك لها ، فتحتكر موارد الحكم بيد قاسية، غير آبهة بشيء سوى مصلحتها الذاتية.
ولكن المأساة لا تتوقف عند حدود السياسة، بل تمتد لتشمل التفاعل بين الشعوب والنظم التربوية الأوروبية التي كانت في نظر «لوبون»، أداة لتخريب عقول الشعوب المتأخرة، حيث عملت على غسل أدمغة هؤلاء الضعفاء، ليصبحوا مجرد دمى في أيد خفية لا هم لها سوى تأبيد هيمنة الغرب. ثم يلتفت «لوبون إلى الاستعمار الذي تذرع بحجة «الحرية»، وراح يستبيح الأرض والأوطان، يسرق مقدرات الشعوب تحت عباءة زائفة، يصوغها بألفاظ براقة لا تخلو من السخرية المريرة.
وعلى الرغم من هول هذه المعاناة، فإن الكاتب لا يغفل التعمق في جروح التاريخ التي تفتحها أيدي الحاكمين، حيث يناقش الجرائم السياسية التي أدمت الشعوب ويدعو إلى محاكمة صادقة للدماء المسفوكة باسم السلطة، ويقف عند صور التعصب والاضطهاد الديني التي شوهت المجتمعات وعكست صورة مظلمة عن الإنسان.
هكذا، يخط «غوستاف لوبون في هذا الكتاب أكثر من مجرد سرد تاريخي؛ هو قصيدة مريرة صور فيها بشجاعة ملامح الحروب الفكرية والنفسية التي خاضتها الأمم في صراعها الطويل على السلطة، وفى مواجهة العوائق التي تحول بينها وبين تحقيق الحرية.
التعليقات
مسح الفلاترلا توجد مراجعات بعد.