جديد
ثمة فارق حاسم لا بد من تفكره ووعيه، بين الحدس الباطني والإدراك المعرفي فيما يتعلق بقضية الاعتقاد الديني. فالدين، وليكن (أ) لدى المؤمن به هو حَدْس باطني، جزءٌ من هويته الداخلية، لا يمكن الانفصال عنه، فالشعور باليقين إزاءه يبقى أمرًا طبيعيًّا. ولكن هذا الدين نفسه، بالنسبة إلى شخصٍ آخر يتبع الدين (ب) أو لا يتبع أي دين، فمجرد حقيقة خارجية، يسعى إلى التعرف إليها باعتبارها موضوعًا لإدراكه، يحق له أن يطرح حولها أسئلة ويفترض إجابات، لكن دون الجزم بصحتها، وإلا استحال دوجماطيقيًّا، يفرض نفسه على ضمائر الآخرين.
يتيح هكذا وعي لكل شخص أن يمتلك نصيبًا من الحقيقة وأن يؤمن، في الوقت نفسه، بحق الآخرين في امتلاك أنصبتهم. وربما اعتقد أن حظه منها يفوق حظوظ الآخرين؛ولذا يُبقي على دينه الإسمي، غير أن القضية تصبح محصورة في نطاق الأكبر من، والأصغر من، ولا تبقى أسيرة الاختيار الحدي بين الحق الشامل والباطل الكامل، بعد أن فارقت الحقيقة نفسها مربع المطلق حيث البساطة والاختزال، لتسكن فضاء النسبي، حيث التركيب والتعقيد. ومن ثَمَّ يمكن تحقيق التسامح الديني، بل التفاهم الإنساني، انطلاقًا من الإيمان العميق بنسبية الحقيقة وتوزع أقدار مختلفة من الخير والفضيلة على شتى تجلياتها.
لقد وجد الدين، حقًّا؛ لتمكين الإنسان من الاستنارة الوجودية، العقلية والروحية، ولكن هذه الغاية تظل مستحيلة ما لم يعكس الدين بأمانة تنوعات الضمير البشري، ويصغي إلى توتراته، فعندها فقط تصير الأديان طرائق مُعبَّدة إلى اللَّـه، لا أنصالًا حادة في يد الشيطان، كما جرى كثيرًا في التاريخ، ولا يزال. وإذا كانت تلك الاستنارة ضرورة لعموم المتدينين، فهي حتمية لأرباب التوحيد الإبراهيمي، الذين لا تقتصر شراكتهم على الاعتقاد الديني، بل تتجاوزه إلى الخيال الثقافي والفضاء الحضاري، بما يطرحه ذلك كله من إشكاليات استراتيجية وتعقيدات نفسية فرضت نفسها على الخبرة التاريخية، ولا تزال تغذي الواقع الراهن، يطمح هذا الكتاب إلى حلحلتها.
التعليقات
مسح الفلاترلا توجد مراجعات بعد.