أثبت حزب البعث وجوده كقوة سياسية بشكل متزايد في حياة العراق منذ منتصف الخمسينات وما بعد ، ونجح في بناء خلايا لحسابه داخل الكلية العسكرية ومدرسة الطيران ، شكلت نواة تنظيمه العسكري الذي قام بإنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ . وكان الشيوعيون قد حذروا ، منذ مطلع العام ١٩٦٣ ، من مخاطر وقوع انقلاب عسكري يطيح بقاسم ، ودعوا ، بعد وقوع الانقلاب ، على لسان سكرتيرهم حسين الرضي إلى المقاومة الشعبية مطالبين الحكومة بتوزيع السلاح . وشهدت أيام شباط المأساوية ، الثامن والتاسع والعاشر ، ” صدامات رهيبة بين جزء كامل من العراقيين وجزء آخر ” ، وفي ٩ شباط تم تنفيذ حكم الإعدام بقاسم ، وأدى دمار حكمه إلى أن تميل كفة ميزان المقاييس المخيف ضد صالح الشيوعيين .
وفي تقديرات الشيوعيين ، فإن لا أقل من ٥٠٠٠ مواطن قتلوا في القتال الذي جرى في تلك الأيام ، وفي ٢٠ شباط ، اعتقل حسين الرضي وتوفي تحت التعذيب بعد أربعة أيام ، وأعلنت الحكومة الجديدة يوم ٩ آذار أنه حكم عليه بالإعدام شنقا ، مع اثنين من رفاقه .
وبعد سنوات على وقوع تلك الأحداث ، دارت نقاشات داخل الحزب الشيوعي حول تقييم موقفه منها ، حيث وصف عامر عبد الله وبهاء الدين نوري ورفاقهما المقاومة المسلحة التي دعي إليها الحزب وجماهيره يوم ٨ شباط ١٩٦٣ بأنها ” مغامرة ” لم تؤد إلا إلى ” مجزرة ” ، ورأوا كذلك أنه لا تمكن تبرئة الشيوعيين من المسؤولية عن إدخال وسائل العنف لحل الخلافات السياسية ، بينما اعترف ” اليساريون ” بقيادة عضو المكتب السياسي عزيز الحاج بأن ” العامل الرئيسي ” في وصول الحزب إلى قمة سوء الحظ كان خط ” الدفاع السلبي ” الذي اتبعه في الفترة ١٩٥٩-١٩٦٣ ، وأنه كان يتوجب على الحزب أن يبدأ هو الحرب الأهلية بدلا من أن يحاول تجنبها مهما كان الثمن .
ولدى تقييمه لموقف الحزب من تلك الأحداث ، يعتبر المؤرخ الراحل أن هزيمة الحزب عام ١٩٦٣ كانت تعود بالفعل إلى تراجعه عام ١٩٥٩ ، لكنه يرى أنه ليس من الواضح تماما أن تراجع العام ١٩٥٩ كان ” خطأ سياسيا ” ، لأنه في العام ١٩٥٩ ، كما في العام ١٩٦٣ ، كان الحزب ” يتذبذب صعودا وهبوطا ” ، وكانت الأمور ” صعبة عليه من الباطن ” ، ولا يبدو أن الحزب وجد أمامه خيارات كثيرة ، على الأقل بسبب ” توزع القوى عالميا وبسبب ارتباطاته الدولية ” ، والواقع أنه يبدو أن الحزب ، ونتيجة للتضارب بين متطلبات وضعه الداخلي ومترتبات التزاماته الخارجية ، قد ” وقع في نوع من الحتمية عززت تعرضه للكارثة ”.
ولكن إذا ظهر أن الاحتمال كبير بأنه كان يستحيل تجنب هزيمة ١٩٦٣ ، فهل كان يمكن تحاشي العنف الذي رافق الهزيمة ؟ في رده عن السؤال ، يقدر بطاطو أنه كان يمكن ألا يكون رد فعل البعثيين بهذه ” الشراسة ” لو أن الشيوعيين كانوا ” متعقلين ” ولم يقاوموا يوم الانقلاب ، ولكن الحقيقة هي ” أن عنف ١٩٦٣ يفسر ، إلى حد كبير ، بعنف ١٩٥٩ ، الذي تدل قراءة التاريخ بإمعان على أنه لم يكن نقطة انطلاق مستحدثة في الحياة السياسية العراقية ” ، وإذا كان المرء ميالا إلى أن ينسب العنف ، جزئيا ، إلى تأثيرات عقائدية ، فسيكون عليه ” أن يفسر أيضا كيف حدث أن نشأت هذه العقائد ، ولما تأثرت عقول أو جماهير الناس بها ” .
وبما أنه ليس لمثل هذا النوع من الاستطلاع نهاية ، يخلص بطاطو إلى أنه كثيرا ما تجد القوى السياسية نفسها متورطة في سلسلة معقدة من الأساليب التي لم تحركها هي نفسها والتي أبعد منالا من إمكان سيطرتها عليها ( الكتاب الثالث ، ص ٣٠٦-٣٠٨) .
التعليقات
مسح الفلاترلا توجد مراجعات بعد.